القاهرة-مراسل مجلة انكيدو
عن دار الحضارة للنشر صدرت رواية خضير ميري الجديدة الذبابة على الوردة وهي رواية اوجز فيها ميري جانب آخر من تجربة القمع والحرمان لسجين سياسي عانى اقسى حالات التعذيب وصار الجنون وحده امامه مهربا ولعل بصدو ر هذه الرواية يكون خضير ميري قد دلل على وحدة عوالمه السردية والشعرية بولوجه لأسئلة العقل والجنون مرارا وتكرار من حلال ثيمات انسانية كبرى يكون الحس الفلسفي واضحا فيها ولعل من الطريف ان الرواية جاءت مقدة بقلم الدكتور باهر سامي بطي وهو طبيب خضير ميري داخل المصحة وصديقه ورفيقه بعد ذلك وفيما يلي مقدمة الدكتور باهر سامي بطي مع جانب من متن الرواية الجديدة ومن الجدير بالذكر ان دار الحضارة قد قامت بترشيح الرواية الى جائزة بوكر العربية لهذا العام
الذبابـة على الـوردة
(رواية)
خضـير ميـري
كان لا بد أن يشير خضير ميري، كعادته، إلى كتاب ما يجده الأقرب إليه لحظتها، عندما يدفع لي نصاً لأقرأه. ويبدو أنه وجد رواية كونستانتين جورجيو "الساعة الخامسة والعشرون"، الأقرب إلى تصريحه بالجنون. لا أخفي التقارب الخفي بين الأرنب الأبيض الذي ينذر بالخطر عند أوهاين موريتز، وبين رغبة خضير ميري بالتصريح بالجنون فى الذبابة على الوردة – الرواية التي بين أيدينا الآن. ولكن ميري لا يستطيع أن يلتزم بقضية واحدة للنص، فما أن يمسك بياقة قضية ما حتى ينشر قضايا الوجود كلها على الحبل.
لا تنتمي الرواية تحديداً إلى جنس السيرة الذاتية، ولا إلى تاريخ القمع البشري، ولا إلى تاريخ السياسة بين سلطة ومعارضة في العراق، ولا إلى تاريخ معاناة المثقفين العراقيين مع السلطة الدكتاتورية فحسب. وإنما سنكتشف أنها تاريخ محاكمة اللامعقول الإنساني للمعقول السائد، المؤسساتي منه والكوني. وربما تكون هذه حبكة جديدة لإدماج السؤال الأونطولوجي في سؤال الجنون الذي هو من الطراز العقلي بجدارة ملحة. إنها حكاية "الفرد الذي يزرعه آخرون في طريق وجود لا ضمانات فيه ثم يموتون بعد ذلك ليتركوه وحيداً كأنه هو الذي أنجب الحياة ولم ينجبه أحد".
بصراحة، أكملت قراءة النص في طريق ذهابي وإيابي من داري إلى مكان عملي في مستشفى الشماعية، أنا الذي عجنت في رحى الوجود بين قطب بطل توهمته، وقطب لا يعد نفسه بطلا بل مجرد صعلوك هامشي كنت قد عايشت حريته الخطيرة في حياته اليومية المقلقة والمتقلبة بين مقاهى وبارات بغداد الساحرة. ولكي لا يذهب بنا الكلام عن أعمال خضير ميري بصورة عامة والتي لا يمكن فصلها عن بعضها بعضا بسهولة قررت أن اختصر مقدمتي اختصاراً يتناسب مع خفة الوجود، كما يقول ميلان كونديرا، وكما يحتاج هذا النص الأكثر تشابكاً من ألوان الطيف الضوئي في ماسة، وكما يتطلب إله المفاجاءت الذي يجعلني مطالباً بتبرير عقلانيتي لمن يعرف مبرر جنونه. قال خضير ميري ذات مرة عندما كان سجيناً في مصحتنا، بعد أن وفرت له فرصة زيارتي في دار الأطباء، قرب أشجار اليوكاليبتوس المتشابـهة عندما كانت الطائرات الحربية تحلق فوقنا: "أخشى أن يسقط العراق"، قلت له: "كيف؟" فقال: "عندما يسقط الفرق بين العقل والجنون". عرفت حينذاك أن خضير ميري يستمد بقائه من إحراج العلاقة التوترية القائمة بين الجنون والعقل وأستمد بقائي معه من التساؤل عن هذا الإحراج.
في البدء، يجب اقتناص التصريح الأوضح في الرواية، خضير ميري يعترف في لحظة صدق المواجهة مع الموت، بأن الوجود ثروة وأن الله متفضل على البشر بهذه الثروة. وهذا هو أول وآخر تصريح واضح نحصل عليه، وما تبقى هو محاكمة لقمعية العقل تحت اسم (الذبابة على الوردة). الأصح أن نسمي الرواية قصة حياة القمع، حيث يقسم النص القمع إلى أنواع، القمع الأكبر للحضارة العقلانية، ثم القمع الأصغر للسلطة الدكتاتورية، ولا يتورع عن استخدام الشائعات ليهاجم قمع الطب النفسي. ومع أن ميري يقتطع شريحة زمانية ومكانية محددة ولكنه ينجح في تقديمها كنموذج لتاريخ القمع.
إذن، مع استعراض السيرة الشخصية، يستعرض خضير ميري في النص مسيرة الدكتاتورية، وآليات الممارسات القمعية في تشكلها الفكري والوجداني داخل العلاقة بين الجلاد والضحية، والمهزلة التي تنطوي عليها هذه العلاقة (الضحية يصلح جهاز تعذيبه بنفسه). كما يتعرض لمأساة المثقف العراقي الذي وقع ضحية اللعبة السياسية بين السلطة والمعارضة، مأساة اللا-بطل في الصراع بين الجهتين على البطولة، ومأساة المواطن الذي لم يعد ملكاً لذاته بل ملكا للديكتاتورية إذا ما أراد البقاء حيا.
يصل خضير ميري، في خضم استعراضاته المحبوكة من خيوط كوميديا سوداء، إلى ذروة تراجيديا الإنسان المتمرد. الصراع مع البناء القيمي لحضارة العقل، ومحاربة الاستلاب بسرقة ممكنات الحرية عن طريق الجنون. تبزغ جذوة الحياة من قاع المأساة، فيتحدث ميري عن ممارسة فعالية الوجود داخل المصحة العقلية، ويستمر بالتساؤل (لماذا كل هذه الكمية من العنف؟)، ببراءة من اغتصبت عذرية أحقيته في التفكير بحرية.
الذبابة على الوردة هو إضاءة من زاوية أخرى لحياة خضير ميري تختلف عن الإضاءة التي سبقتها في رواية "أيام الجنون والعسل". الذاكرة الشخصية هي نفسها لكن (الأيام) أنجزت اختراق جدار مؤسسة كان من المستحيل اختراقها، وجاءت الفرصة الآن ليقول في (الذبابة على الوردة) ما لم يذكره عن بداية الرحلة التي أوصلته إلى المصحة، وليستكمل الرسم الذي بدأه لصورة الصراع بين الحرية والقمع، وبين المثقف والسلطة. صراع لا تلوح له نهاية، فخضير يصر أن السجون تعود في أصلها إلى الكهوف التي سكنها الإنسان البدائي ثم طورتها الحضارة إلى أداة للقمع المؤسساتي الحديث. صحيح أن الحرية قد أعطت لخضير ميري دفقاً جديداً دفعه لاكتشاف ثروة الوجود، لكنه يستمر في إدانته للبشرية فيصرخ (ما إغربنا من مخلوقات بل ما أغبانا.... ونحن نعرض ثروة الوجود إلى فقر العدم وفراغه القادم لا محالة).
عن دار الحضارة للنشر صدرت رواية خضير ميري الجديدة الذبابة على الوردة وهي رواية اوجز فيها ميري جانب آخر من تجربة القمع والحرمان لسجين سياسي عانى اقسى حالات التعذيب وصار الجنون وحده امامه مهربا ولعل بصدو ر هذه الرواية يكون خضير ميري قد دلل على وحدة عوالمه السردية والشعرية بولوجه لأسئلة العقل والجنون مرارا وتكرار من حلال ثيمات انسانية كبرى يكون الحس الفلسفي واضحا فيها ولعل من الطريف ان الرواية جاءت مقدة بقلم الدكتور باهر سامي بطي وهو طبيب خضير ميري داخل المصحة وصديقه ورفيقه بعد ذلك وفيما يلي مقدمة الدكتور باهر سامي بطي مع جانب من متن الرواية الجديدة ومن الجدير بالذكر ان دار الحضارة قد قامت بترشيح الرواية الى جائزة بوكر العربية لهذا العام
الذبابـة على الـوردة
(رواية)
خضـير ميـري
ألـوان الطـيف في مـاسة
مقدمة بقلم الدكتور باهر سامي بطي
طبيب مقيم بامريكا
كان لا بد أن يشير خضير ميري، كعادته، إلى كتاب ما يجده الأقرب إليه لحظتها، عندما يدفع لي نصاً لأقرأه. ويبدو أنه وجد رواية كونستانتين جورجيو "الساعة الخامسة والعشرون"، الأقرب إلى تصريحه بالجنون. لا أخفي التقارب الخفي بين الأرنب الأبيض الذي ينذر بالخطر عند أوهاين موريتز، وبين رغبة خضير ميري بالتصريح بالجنون فى الذبابة على الوردة – الرواية التي بين أيدينا الآن. ولكن ميري لا يستطيع أن يلتزم بقضية واحدة للنص، فما أن يمسك بياقة قضية ما حتى ينشر قضايا الوجود كلها على الحبل.
لا تنتمي الرواية تحديداً إلى جنس السيرة الذاتية، ولا إلى تاريخ القمع البشري، ولا إلى تاريخ السياسة بين سلطة ومعارضة في العراق، ولا إلى تاريخ معاناة المثقفين العراقيين مع السلطة الدكتاتورية فحسب. وإنما سنكتشف أنها تاريخ محاكمة اللامعقول الإنساني للمعقول السائد، المؤسساتي منه والكوني. وربما تكون هذه حبكة جديدة لإدماج السؤال الأونطولوجي في سؤال الجنون الذي هو من الطراز العقلي بجدارة ملحة. إنها حكاية "الفرد الذي يزرعه آخرون في طريق وجود لا ضمانات فيه ثم يموتون بعد ذلك ليتركوه وحيداً كأنه هو الذي أنجب الحياة ولم ينجبه أحد".
بصراحة، أكملت قراءة النص في طريق ذهابي وإيابي من داري إلى مكان عملي في مستشفى الشماعية، أنا الذي عجنت في رحى الوجود بين قطب بطل توهمته، وقطب لا يعد نفسه بطلا بل مجرد صعلوك هامشي كنت قد عايشت حريته الخطيرة في حياته اليومية المقلقة والمتقلبة بين مقاهى وبارات بغداد الساحرة. ولكي لا يذهب بنا الكلام عن أعمال خضير ميري بصورة عامة والتي لا يمكن فصلها عن بعضها بعضا بسهولة قررت أن اختصر مقدمتي اختصاراً يتناسب مع خفة الوجود، كما يقول ميلان كونديرا، وكما يحتاج هذا النص الأكثر تشابكاً من ألوان الطيف الضوئي في ماسة، وكما يتطلب إله المفاجاءت الذي يجعلني مطالباً بتبرير عقلانيتي لمن يعرف مبرر جنونه. قال خضير ميري ذات مرة عندما كان سجيناً في مصحتنا، بعد أن وفرت له فرصة زيارتي في دار الأطباء، قرب أشجار اليوكاليبتوس المتشابـهة عندما كانت الطائرات الحربية تحلق فوقنا: "أخشى أن يسقط العراق"، قلت له: "كيف؟" فقال: "عندما يسقط الفرق بين العقل والجنون". عرفت حينذاك أن خضير ميري يستمد بقائه من إحراج العلاقة التوترية القائمة بين الجنون والعقل وأستمد بقائي معه من التساؤل عن هذا الإحراج.
في البدء، يجب اقتناص التصريح الأوضح في الرواية، خضير ميري يعترف في لحظة صدق المواجهة مع الموت، بأن الوجود ثروة وأن الله متفضل على البشر بهذه الثروة. وهذا هو أول وآخر تصريح واضح نحصل عليه، وما تبقى هو محاكمة لقمعية العقل تحت اسم (الذبابة على الوردة). الأصح أن نسمي الرواية قصة حياة القمع، حيث يقسم النص القمع إلى أنواع، القمع الأكبر للحضارة العقلانية، ثم القمع الأصغر للسلطة الدكتاتورية، ولا يتورع عن استخدام الشائعات ليهاجم قمع الطب النفسي. ومع أن ميري يقتطع شريحة زمانية ومكانية محددة ولكنه ينجح في تقديمها كنموذج لتاريخ القمع.
إذن، مع استعراض السيرة الشخصية، يستعرض خضير ميري في النص مسيرة الدكتاتورية، وآليات الممارسات القمعية في تشكلها الفكري والوجداني داخل العلاقة بين الجلاد والضحية، والمهزلة التي تنطوي عليها هذه العلاقة (الضحية يصلح جهاز تعذيبه بنفسه). كما يتعرض لمأساة المثقف العراقي الذي وقع ضحية اللعبة السياسية بين السلطة والمعارضة، مأساة اللا-بطل في الصراع بين الجهتين على البطولة، ومأساة المواطن الذي لم يعد ملكاً لذاته بل ملكا للديكتاتورية إذا ما أراد البقاء حيا.
يصل خضير ميري، في خضم استعراضاته المحبوكة من خيوط كوميديا سوداء، إلى ذروة تراجيديا الإنسان المتمرد. الصراع مع البناء القيمي لحضارة العقل، ومحاربة الاستلاب بسرقة ممكنات الحرية عن طريق الجنون. تبزغ جذوة الحياة من قاع المأساة، فيتحدث ميري عن ممارسة فعالية الوجود داخل المصحة العقلية، ويستمر بالتساؤل (لماذا كل هذه الكمية من العنف؟)، ببراءة من اغتصبت عذرية أحقيته في التفكير بحرية.
الذبابة على الوردة هو إضاءة من زاوية أخرى لحياة خضير ميري تختلف عن الإضاءة التي سبقتها في رواية "أيام الجنون والعسل". الذاكرة الشخصية هي نفسها لكن (الأيام) أنجزت اختراق جدار مؤسسة كان من المستحيل اختراقها، وجاءت الفرصة الآن ليقول في (الذبابة على الوردة) ما لم يذكره عن بداية الرحلة التي أوصلته إلى المصحة، وليستكمل الرسم الذي بدأه لصورة الصراع بين الحرية والقمع، وبين المثقف والسلطة. صراع لا تلوح له نهاية، فخضير يصر أن السجون تعود في أصلها إلى الكهوف التي سكنها الإنسان البدائي ثم طورتها الحضارة إلى أداة للقمع المؤسساتي الحديث. صحيح أن الحرية قد أعطت لخضير ميري دفقاً جديداً دفعه لاكتشاف ثروة الوجود، لكنه يستمر في إدانته للبشرية فيصرخ (ما إغربنا من مخلوقات بل ما أغبانا.... ونحن نعرض ثروة الوجود إلى فقر العدم وفراغه القادم لا محالة).
د. بـاهر بـطي
طبيب عراقي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية
الأحد يونيو 29, 2014 1:49 am من طرف مصطفى الروحاني
» قصيدة هبة الله للشاعر العراقي عبدالله النائلي
الأحد يونيو 29, 2014 1:45 am من طرف مصطفى الروحاني
» رثائية حبيب للشاعر العراقي عبدالله النائلي
الأحد يونيو 29, 2014 1:44 am من طرف مصطفى الروحاني
» تعبان مثل العشگ
الإثنين أكتوبر 17, 2011 2:23 pm من طرف الفراشه الحالمه
» اشتقت اليـــــــك
الإثنين أكتوبر 17, 2011 3:20 am من طرف الفراشه الحالمه
» اخاف عليك من روحي
الإثنين أكتوبر 17, 2011 3:14 am من طرف الفراشه الحالمه
» نهر عطشان
الإثنين أكتوبر 17, 2011 3:08 am من طرف الفراشه الحالمه
» مرثية ليست اخيرة
السبت يونيو 18, 2011 7:00 pm من طرف سامي عبد المنعم
» رحيم الغالبي ..... لك العافية
السبت يونيو 18, 2011 9:16 am من طرف كامل الغزي
» تجليات الفنان الفطري حمد ماضي
الجمعة مايو 27, 2011 11:21 am من طرف كامل الغزي