القافز بعصا الزانة
قصة قصيرة
محمود يعقوب
إلى شـاكر رزيج فرج في عالم الأرواح :
بوردة ٍ رقيقة ٍ مثل قلبك ،
يمكن أن نحاصر الملك ونغلبه .
آخر مرة ٍ رأيته ، كانت في غرفة الإنعاش ، حين نقلوه إلى مستشفى الطوارىء . كان وجهه شاحبا ً ، تحت جفنيه تلألأت قطرات صغيرة من العرق . غطى أنفه جهاز التنفس الاصطناعي ، وخيـّمت على سريره ممرّضة ٌ كـُرَوية الشكل تتنفس بصوت مسموع ، استغرقت في مساعدته بعبوس وانقباض . .
على السرير بدا نحيفا ً ، يختلج صدره بوهن . زهرات الفل البيضاء المرسومة على الفراش البني لم تكن جميلة . لا أحد َ يتكلم . رائحة الدواء ، وصوت احتكاك الأحذية الخافت مع البلاط ، كانا يشحذان الترقب بين الصدغين . لم يفرِق شعره الناعم على جانبي رأسه كالمعتاد . لم ينثر عطره الليموني الزكي على قميصه . لم يضع خاتم العقيق الأسود في بنصره . لم يبتسم في وجهي . لم يلعن شرفي مثل كل مرة ٍ ، حتى أنه لم يرني !..
أصابني في الصميم وأوجعني . وقفت حيرانًَ ، مدججا ً بالحسرات ، فريسة للظنون ، متسائلا ً بذهول ٍ كيف يمكن أن يحدث هذا ؟..
غطـّيت جسده المسجّى بنظرة وداع ٍ سابغة .. نظرة من ديباج الحنان ونسيجه الروحي ، أرخيتها عليه ورحلت ..
بعد لقاءات قليلة ، توثقت صداقتي به سريعا ً ، في أوائل العقد الماضي ، بالتحديد في الفترة التي طبعوا فيها صورة الجنرال على عملتنا الوطنية . صرنا لا نفترق . كنا نجلس ساعات من الصباح نتسقط أخبار المعارضة كل يوم ٍ ، نتشمـّمها مثل كلاب الصيد . ننبشها من تحت الأرض ونأتي بها . ثم تطور حالنا إلى الاتصال بجماعات ٍ أخرى ، وجدونا جديرين بثقتهم ، ثابرنا على تحصيل الأخبار منهم ..
لم تعد تلك العـُملة تعني الكثير ، بين ليلة وضحاها إنقلبت قيمتها ، لقد غسلها الله وجها ً وقفا ، وأسقط حظـّها في الأسواق ، كان ذلك مؤشرا ً لغروب النظام وأفول نجمه الباهت .
كانت آفاقنا المستقبلية غائمة ، إلا ّ أننا كنا مشغولين بالعد التنازلي لسلطة الحكم .
كانت تلك العلاقات تتشعب يوما ً بعد آخر، حتى وجدنا نفسينا في النهاية متورّطين في شبه تنظيم عفوي ٍ ، نشأ اعتباطا ً في إطار علاقات محدودة قوامها السخط العارم على نظام الحكم ، ورصد
أخبار مقاومته ..
في تلك الأيام السود ، كانت الأخبار السريـّة التي نجمعها ، كنزنا الذي لا يُقدر بثمن . في ظلالها كنا نشعر بسيل ٍ من الراحة والأمل .. كانت تكللنا بمشاعر المنتصرين ..
لم يكن خزيننا الإخباري يعتمد على مصادرنا المجّانية وحسب ، بل كنا نعمد إلى شراء تلك الأخبار بمواردنا المالية البسيطة أيضا ً !. بين فترة ٍ وأخرى نجمع من بعضنا مبلغا ً متواضعا ً من المال ، يذهب بواسطته رجل متطوع إلى مناطق الأهوار ، لتقصّي الحقائق !. كان هذا الرجل متباهيا ً .. متباهيا ً بأنه لا يجلب الأخبار إلا ّ من أمـّها ، هدهد سليمان وصاحب الخبر اليقين ، ومن أجل تلك الأخبار كان مستعدا ً للذهاب إلى حدود الصين ..
كنا نخلو إلى بعضنا في أحد الأركان ، نتداول الأخبار همسا ً . نجلس ساعات ٍ طويلة ٍ نتفلسف في السياسة ، نثرثر كثيرا ً ، ونرسم سيناريوهات لسقوط النظام المحتضر . لا أستطيع أن أنكر كيف كنا نشذب تلك الأخبار ونزيـّنها ، نضمخ شعرها بالحنـّاء ، نكحـّلها ، نمـغر خدودها وشفاهها ونجعلها كزهر الرمـّان ، نصبغ أظافرها ، نعلـّق الأقراط في آذانها ، ونشبك الحلي على صدرها ، ونزفـّها عروسا ً متبخترة ً مشعـّة ، تحرّك حتى الحجر !.
في أغلب الأحيان حين نعود إلى بيوتنا ، كان صديقي يذكـّرني جَزِعا ً أن لا أنسى التضرع إلى الله في صلاتي ليمحق ذلك النظام وأزلامه .
بلا شك ، كنا مهووسين هوسا ً حقيقيا ً في الاستماع إلى المزيد من الأخبار الجديدة .. هوسا ً غريبا ً لا يُصدَّق . كم مرّة ٍ نهضت عند انتصاف الليل ، لأرتدي ملابسي على عجل ٍ ، وأهرع إلى صديقي هذا لأسعفه بخبر ٍ طازج ٍ .. طازج ٍ لم يزل في حليبه ..
إن شيئا ً ما .. شيئا ً ما يرفرف في داخلي لا يُصَبرني على حفظ الخبر إلى الصباح ، إنني متأكد ٌ تماما ً أن النوم سيجافيني إن لم أهرع وأخبر صديقي به فورا؟!.. إن الأمور هذه تحدث أمام أنظار زوجتي التي تبهت من فرط الذهول ، ثم لا تلبث أن يستغرقها الضحكٌ الهستيري قبل أن يبدأ شجارنا وجدلنا . ولكن رغم أنف زوجتي وأقوالها وتحذيراتها من المصائب ، كانت تلك الأخبار هي التبن المفضّل في علفي ، ومن يبتغي حلبي عليه أن يأتيني عند الصباح الباكر ولسوف أدرُّ عليه حليبا ً زلالا ً دسما ً.
في ممرات المستشفى الضيقة ، التي تتقارب فيها الجدران على نحو ٍ مزعج ً، تنبعث روائح نفاذة ٌ بلا هوادة ، إن هذه الروائح وتلك الصدريّات البيضاء سرعان ما أقصتني إلى عالم ٍ غريب ٍ وبعيد ، إلى أطلال تاريخية أثرية تحلـّق فوقها الملائكة قانطة وحزينة . وعلى طول الممرات كانت هنالك أطنان ٌ من النساء ، بنظراتهن التخمينية اللزجة ، كن يتساءلن بصمت ( هل جئت لتموت الآن ، أم في وقت ٍ لاحق ؟.. ) .
توقفت أمام غرفة الاستعلامات قليلا ً، تطلّعت إلى صورتي المنعكسة على الزجاج ، كنت أراني مظلما ً منقبض القلب ، بوجه كئيب جامد لا يحزّه الفأس ، وبالحاجبين المقطبين . تأملت وجهي كأنني كليل البصر ِ ، تأملت الملامح المخيّطـَة المقفلة ، في الثياب الرمادية القديمة ، التي تجعلني أبدو مثل مريض خارج للتو من ردهات المستشفى !.. لقد أصابني صاحبي في الصميم وآلمني . كيف يمكن أن يحدث ذلك معه ؟ كيف تسنى له أن يستلقي مستسلما ً إلى اضطراب قلبه ؟. كان صديقي في ريعان شبابه ، غضّا ً ، فتيا ً وقويا ً. لم يدخن ، لم يتعاط َ الكحول ، لم يُفرط يوما ً في صحته ، لم يشكُ من مرض ٍ . لكن كيف حدث هذا ، ذلك ما حيرني حقا ً..
بعد ثلاثة أيام ، تخطى أزمته القلبية ، خرج من المستشفى معافى . ذهبت لعيادته في البيت .. ذهبت بلهفة ٍ لأرمي في حجره سلـّة أخباري اليانعة. لم يسمحوا لي برؤيته ، قالوا أن الطبيب نصحهم ببقائه معزولا ًًفي غرفة هادئة ، بعيدا ً عن الضوضاء وملاقاة الناس ..
أبقيت على اتصالي معهم ، أتابع أخباره وتماثله إلى الشفاء ، أتحرق شوقا ً لرؤيته . حتى جاءني من يخبرني بأنه مات !..
عشت مع صديقي هذا زمنا ً كافيا ً لأعرف كل ما كان يجيش في أساريره . في واقع الحال ، كنا نعيش حياة ً بسيطة لا يحسدها أحد ٌ ، لكنها حياة هادئة لا ينغص عليها سوى شبح الحكـّام الذين نَعدّ ساعات احتضارهم ، ساعة ً ساعة ..
بعد مراسيم الحزن والفراق ، ألححت ُ كثيرا ً على أخيه بأسئلتي الحائرة التي توخـّت سبر أسرار مرضه وموته السريع . تشعب حديثنا .. من خلاله أثار حفيظتي أمر ٌ في غاية الخطورة ، أمر ٌ لم تتنبه له عائلته من قبل ..
قال إن أخاه الراحل كان يزجي أوقات المساء والليل أمام جهاز التلفزيون . كان يتناوب المشاهدة على مَحَطـَتي التلفاز الوحيدتين آنذاك ، لكنه أينما كان يدير الزر لا يرى سوى أولئك الحكـّام بملابسهم العسكرية ومسدساتهم المغروزة في أحزمتهم . في الواقع كانوا جنرالات بلا رتب ٍ ، جنود خـُلِقوا ليقاتلوا العالم بأسره !.. لم تكن أمامهم أهداف واضحة معينة ، إنما كل إنسان يغايرهم يمكن أن يكون هدفا ً في طريقهم .. يراهم يزمجرون غضبا ً وهم يتوعدون أعداءهم ، والجماهير تعوي خلفهم ثائرة ً مرددة ً شعارات ٍ لم يجد أكذب منها في بطون التاريخ على الإطلاق . إنه يعتقد أن أي واحد ٍ منا لا يمكن أن ينسى كيف استحوذ أولئك الساسة بغرور على محطتي التلفاز استحواذا ً جائرا ً ، لتسويق بضائعهم ، لا ينسى أيضا ً كيف كانوا يتعلمون المنطق والسياسة بـ ( رؤوس اليتامى ).
لم يقو َ على رؤيتهم ولا حتى سماعهم ، لكنما التلفاز لا يعرض سواهم . كان يجلس أمامه يحرق نفسه بألسنة الغضب المتأججة . حينما تطل وجوههم من الشاشة ، يتبادر إلى ذهنه فورا ً أنهم مسلـّطون على رقبته وحده .. وحده فقط . يبدأ يستعر ويذوب حقدا ً وغضبا ً . يضرب فخذه بقوة ٍ وأحيانا ً يصفع جبهته وهو يسبُّ ويلعن الحكومة ، ولربما يستعر انفعاله فيروح يجدف بمقدساته !!..
كان يتصرف وكأنه الوحيد في هذا الوطن الذي ينصبّ عليه الظلم والجور.
يأوي إلى فراشه كئيبا ً متضايقا ً ضجرا ً ، وفي الصباح يفزع إليَّ عسى أن يلتقط خبرا ً يثلج صدره المحترق ، ويريح أعصابه المفتتة ..
صادفت في وقت ٍ لاحق ٍ ، أن التقيت بطبيب ٍ نفساني .. طبيب شاب يعمل على إكمال دراسته العليا ، كنت وصديقي الراحل على علاقة ٍ طيبة ٍ معه ، انتهينا سابقا ً من تصنيفه كطبيب ٍ شريف .. نعرف جيدا ً عمق المعارضة التي كان يضمرها في قلبه لنظام الحكم ورموزه . في مثل هذه اللقاءات تتسرب الأحاديث إلى أحوال الأصدقاء وأسرارهم عموما ً ، لذلك كنا نعرج إلى ذكريات صديقنا الراحل بشوق وحنين . استعرضنا حياته القصيرة ومناقبه ، وتلك الأخبار الخفية التي كانت تستهويه . في منتصف الحديث سألني الطبيب عن المشاكل الصحية التي عانى منها صاحبنا قبيل وفاته ، أجبته بأنه كان سليما ً ينضح بالعافية !.. حينئذ التفت إلي ّ مندهشا ً وهو يقول :
ـ ومن أين جاءته جلطة القلب ؟..
لم أجبه ، لكن رحت أتطرق بإسهاب ٍ إلى مشاعره المضطرمة دوما ً بشأن الحكومة وأفعالها .. وقصصت عليه حكايات جلوسه الطويل أمام جهاز التلفاز في الليالي ..
بان الانفعال السريع على وجهه ، وسألني كيف كان أهله يسمحون بتدميره أمام تلك الآلة ، إن ذلك انتحار أحمق . هز ّ رأسه بضعة هز ّات وقال :
ـ تلك المشاهدات لابد من أنها أوقعته تحت طائلة الضغوط النفسية القاهرة ، التي هز ّت أعصابه ومزقت شرايينه ، وجعلت قلبه مرجلا ً يغلي ليل نهار ، يوشك على الانفجار في أية لحظة .
كان ينبغي إبعاده عن التلفاز ..
لوى شفتيه امتعاضا ً ، وكرّر مرة ً ثانية ً وثالثة ً قوله ( كان يجب إبعاده عن التلفاز ..) .
لقد ذهب صديقي إلى منيـّته مسرعا ً ، وتركني ألهث وراء الأخبار وحيدا ً.. وحيدا ً بقيت . حتى أولئك الذين كنا نبادلهم الأخبار سرعان ما دبّ اليأس في قلوبهم واستكانوا . وعندما يشاهدونني أحاول انتزاع الأخبار حتى من أفواه السباع ، وكيف أوقف بعض الرفاق الحزبيين ، من الذين أعرفهم ، أخوض معهم في الكلام ، علـّني أظفر بخبر يريحني ، كان أولئك الأصدقاء يسخرون مني قائلين ( إن ديدانا ً تنبش في داخلي من أجل الأخبار ) ، وكنت أجيبهم بحرقة وغضب ٍ :
ـ أجل هذا صحيح ، تعالوا وشقوا جسدي ، فلسوف ترون ملايين الديدان النبـّاشة التي لا تقر ولا تهجع إلا ّ بإشراقة نور الأنوار ..
* * *
مضى على ذلك الفراق الأليم زمن ٌ طويل ، تغير فيه الواقع تغيرا شاسعا .. سقط الجنرالات ، وخطفهم الموت واحدا ً تلو الآخر .
أورثني صديقي المرحوم بعض عاداته ،
فأمسيت أزجي أوقاتي أمام شاشة التلفاز أيضا ً . ما إن أنتهي من عشائي حتى أتسمر أمامه ساعات ٍ متواصلة ٍ . أجلس طوال الليل أتصفح قنوات التلفزة الجديدة .. قنوات لا حصر لها ولا عد .. قنوات بالعشرات .. إنما عشرات العشرات حقيقة ً .. أتصفحها كل ليلة من الخليج إلى المحيط ، ومن المحيط إلى الخليج .. أتصفحها رائحا ً جائيا .. قنوات مزدحمة بوجوه السياسيين ..سياسيون من كل شكل ٍ ولون.. وجوه جديدة من الساسة تطل من الشاشات كل يوم وكل ساعة ، وكأن جهاز التلفزيون ليس آلة عرض فقط ، بل آلة تفريخ سياسي أيضا !!.. إن الأمر لا يعدو أن تـُسَخِم وجهك لتصير حدّاداً . وفي كل مرّة ٍ يصادفني رجل سياسة ، أعرفه أو لا أعرفه ،أعبره مسرعا .. أعبره قفزا ً، وكأنه نهر ٌضيق ٌ يعترض طريقي .. كأنه كثيب رمل .. أكمة شائكة .. أو لربما بركة موحلة . كنت أتجاوزهم بمرونة ٍ وسرعة ٍ .على طول الشاشات وعرضها كنت أقفز من فوق هؤلاء السادة ، وأنا أنطلق مرتقيا ً حواجزهم . كنت أتمنى لو تشاهدونني كيف أقفز .. والله والله ، وليس لكم أي يمين عليّ ، كنت أندفع مسرعا ً ، مطوحا ً جسدي في الهواء عاليا ً مثل القافز بعصا الزانة ، لأعبرهم سالما ً غانما ..
إنني إذ أفعل ذلك ، لا كرها ً للسياسة ، ولا حقدا ً على السياسيين ، سواء من كان منهم سائرا ً على قدميه ، أم من كان محمولا ً على محفته ، إنني لا أحمل في نفسي غضاضة ولا أحسد أحدا ً على تلك العروش المرفوعة وتلك الصولجانات الذهبية البرّاقة، ولكنني أفعل هذا لتمسكي بوصية صديقنا الطبيب الشريف ، وخوفا ً على قلبي المسكين من أن يسقط في صدري صريعا ً محطما ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة / 2009
قصة قصيرة
محمود يعقوب
إلى شـاكر رزيج فرج في عالم الأرواح :
بوردة ٍ رقيقة ٍ مثل قلبك ،
يمكن أن نحاصر الملك ونغلبه .
آخر مرة ٍ رأيته ، كانت في غرفة الإنعاش ، حين نقلوه إلى مستشفى الطوارىء . كان وجهه شاحبا ً ، تحت جفنيه تلألأت قطرات صغيرة من العرق . غطى أنفه جهاز التنفس الاصطناعي ، وخيـّمت على سريره ممرّضة ٌ كـُرَوية الشكل تتنفس بصوت مسموع ، استغرقت في مساعدته بعبوس وانقباض . .
على السرير بدا نحيفا ً ، يختلج صدره بوهن . زهرات الفل البيضاء المرسومة على الفراش البني لم تكن جميلة . لا أحد َ يتكلم . رائحة الدواء ، وصوت احتكاك الأحذية الخافت مع البلاط ، كانا يشحذان الترقب بين الصدغين . لم يفرِق شعره الناعم على جانبي رأسه كالمعتاد . لم ينثر عطره الليموني الزكي على قميصه . لم يضع خاتم العقيق الأسود في بنصره . لم يبتسم في وجهي . لم يلعن شرفي مثل كل مرة ٍ ، حتى أنه لم يرني !..
أصابني في الصميم وأوجعني . وقفت حيرانًَ ، مدججا ً بالحسرات ، فريسة للظنون ، متسائلا ً بذهول ٍ كيف يمكن أن يحدث هذا ؟..
غطـّيت جسده المسجّى بنظرة وداع ٍ سابغة .. نظرة من ديباج الحنان ونسيجه الروحي ، أرخيتها عليه ورحلت ..
بعد لقاءات قليلة ، توثقت صداقتي به سريعا ً ، في أوائل العقد الماضي ، بالتحديد في الفترة التي طبعوا فيها صورة الجنرال على عملتنا الوطنية . صرنا لا نفترق . كنا نجلس ساعات من الصباح نتسقط أخبار المعارضة كل يوم ٍ ، نتشمـّمها مثل كلاب الصيد . ننبشها من تحت الأرض ونأتي بها . ثم تطور حالنا إلى الاتصال بجماعات ٍ أخرى ، وجدونا جديرين بثقتهم ، ثابرنا على تحصيل الأخبار منهم ..
لم تعد تلك العـُملة تعني الكثير ، بين ليلة وضحاها إنقلبت قيمتها ، لقد غسلها الله وجها ً وقفا ، وأسقط حظـّها في الأسواق ، كان ذلك مؤشرا ً لغروب النظام وأفول نجمه الباهت .
كانت آفاقنا المستقبلية غائمة ، إلا ّ أننا كنا مشغولين بالعد التنازلي لسلطة الحكم .
كانت تلك العلاقات تتشعب يوما ً بعد آخر، حتى وجدنا نفسينا في النهاية متورّطين في شبه تنظيم عفوي ٍ ، نشأ اعتباطا ً في إطار علاقات محدودة قوامها السخط العارم على نظام الحكم ، ورصد
أخبار مقاومته ..
في تلك الأيام السود ، كانت الأخبار السريـّة التي نجمعها ، كنزنا الذي لا يُقدر بثمن . في ظلالها كنا نشعر بسيل ٍ من الراحة والأمل .. كانت تكللنا بمشاعر المنتصرين ..
لم يكن خزيننا الإخباري يعتمد على مصادرنا المجّانية وحسب ، بل كنا نعمد إلى شراء تلك الأخبار بمواردنا المالية البسيطة أيضا ً !. بين فترة ٍ وأخرى نجمع من بعضنا مبلغا ً متواضعا ً من المال ، يذهب بواسطته رجل متطوع إلى مناطق الأهوار ، لتقصّي الحقائق !. كان هذا الرجل متباهيا ً .. متباهيا ً بأنه لا يجلب الأخبار إلا ّ من أمـّها ، هدهد سليمان وصاحب الخبر اليقين ، ومن أجل تلك الأخبار كان مستعدا ً للذهاب إلى حدود الصين ..
كنا نخلو إلى بعضنا في أحد الأركان ، نتداول الأخبار همسا ً . نجلس ساعات ٍ طويلة ٍ نتفلسف في السياسة ، نثرثر كثيرا ً ، ونرسم سيناريوهات لسقوط النظام المحتضر . لا أستطيع أن أنكر كيف كنا نشذب تلك الأخبار ونزيـّنها ، نضمخ شعرها بالحنـّاء ، نكحـّلها ، نمـغر خدودها وشفاهها ونجعلها كزهر الرمـّان ، نصبغ أظافرها ، نعلـّق الأقراط في آذانها ، ونشبك الحلي على صدرها ، ونزفـّها عروسا ً متبخترة ً مشعـّة ، تحرّك حتى الحجر !.
في أغلب الأحيان حين نعود إلى بيوتنا ، كان صديقي يذكـّرني جَزِعا ً أن لا أنسى التضرع إلى الله في صلاتي ليمحق ذلك النظام وأزلامه .
بلا شك ، كنا مهووسين هوسا ً حقيقيا ً في الاستماع إلى المزيد من الأخبار الجديدة .. هوسا ً غريبا ً لا يُصدَّق . كم مرّة ٍ نهضت عند انتصاف الليل ، لأرتدي ملابسي على عجل ٍ ، وأهرع إلى صديقي هذا لأسعفه بخبر ٍ طازج ٍ .. طازج ٍ لم يزل في حليبه ..
إن شيئا ً ما .. شيئا ً ما يرفرف في داخلي لا يُصَبرني على حفظ الخبر إلى الصباح ، إنني متأكد ٌ تماما ً أن النوم سيجافيني إن لم أهرع وأخبر صديقي به فورا؟!.. إن الأمور هذه تحدث أمام أنظار زوجتي التي تبهت من فرط الذهول ، ثم لا تلبث أن يستغرقها الضحكٌ الهستيري قبل أن يبدأ شجارنا وجدلنا . ولكن رغم أنف زوجتي وأقوالها وتحذيراتها من المصائب ، كانت تلك الأخبار هي التبن المفضّل في علفي ، ومن يبتغي حلبي عليه أن يأتيني عند الصباح الباكر ولسوف أدرُّ عليه حليبا ً زلالا ً دسما ً.
في ممرات المستشفى الضيقة ، التي تتقارب فيها الجدران على نحو ٍ مزعج ً، تنبعث روائح نفاذة ٌ بلا هوادة ، إن هذه الروائح وتلك الصدريّات البيضاء سرعان ما أقصتني إلى عالم ٍ غريب ٍ وبعيد ، إلى أطلال تاريخية أثرية تحلـّق فوقها الملائكة قانطة وحزينة . وعلى طول الممرات كانت هنالك أطنان ٌ من النساء ، بنظراتهن التخمينية اللزجة ، كن يتساءلن بصمت ( هل جئت لتموت الآن ، أم في وقت ٍ لاحق ؟.. ) .
توقفت أمام غرفة الاستعلامات قليلا ً، تطلّعت إلى صورتي المنعكسة على الزجاج ، كنت أراني مظلما ً منقبض القلب ، بوجه كئيب جامد لا يحزّه الفأس ، وبالحاجبين المقطبين . تأملت وجهي كأنني كليل البصر ِ ، تأملت الملامح المخيّطـَة المقفلة ، في الثياب الرمادية القديمة ، التي تجعلني أبدو مثل مريض خارج للتو من ردهات المستشفى !.. لقد أصابني صاحبي في الصميم وآلمني . كيف يمكن أن يحدث ذلك معه ؟ كيف تسنى له أن يستلقي مستسلما ً إلى اضطراب قلبه ؟. كان صديقي في ريعان شبابه ، غضّا ً ، فتيا ً وقويا ً. لم يدخن ، لم يتعاط َ الكحول ، لم يُفرط يوما ً في صحته ، لم يشكُ من مرض ٍ . لكن كيف حدث هذا ، ذلك ما حيرني حقا ً..
بعد ثلاثة أيام ، تخطى أزمته القلبية ، خرج من المستشفى معافى . ذهبت لعيادته في البيت .. ذهبت بلهفة ٍ لأرمي في حجره سلـّة أخباري اليانعة. لم يسمحوا لي برؤيته ، قالوا أن الطبيب نصحهم ببقائه معزولا ًًفي غرفة هادئة ، بعيدا ً عن الضوضاء وملاقاة الناس ..
أبقيت على اتصالي معهم ، أتابع أخباره وتماثله إلى الشفاء ، أتحرق شوقا ً لرؤيته . حتى جاءني من يخبرني بأنه مات !..
عشت مع صديقي هذا زمنا ً كافيا ً لأعرف كل ما كان يجيش في أساريره . في واقع الحال ، كنا نعيش حياة ً بسيطة لا يحسدها أحد ٌ ، لكنها حياة هادئة لا ينغص عليها سوى شبح الحكـّام الذين نَعدّ ساعات احتضارهم ، ساعة ً ساعة ..
بعد مراسيم الحزن والفراق ، ألححت ُ كثيرا ً على أخيه بأسئلتي الحائرة التي توخـّت سبر أسرار مرضه وموته السريع . تشعب حديثنا .. من خلاله أثار حفيظتي أمر ٌ في غاية الخطورة ، أمر ٌ لم تتنبه له عائلته من قبل ..
قال إن أخاه الراحل كان يزجي أوقات المساء والليل أمام جهاز التلفزيون . كان يتناوب المشاهدة على مَحَطـَتي التلفاز الوحيدتين آنذاك ، لكنه أينما كان يدير الزر لا يرى سوى أولئك الحكـّام بملابسهم العسكرية ومسدساتهم المغروزة في أحزمتهم . في الواقع كانوا جنرالات بلا رتب ٍ ، جنود خـُلِقوا ليقاتلوا العالم بأسره !.. لم تكن أمامهم أهداف واضحة معينة ، إنما كل إنسان يغايرهم يمكن أن يكون هدفا ً في طريقهم .. يراهم يزمجرون غضبا ً وهم يتوعدون أعداءهم ، والجماهير تعوي خلفهم ثائرة ً مرددة ً شعارات ٍ لم يجد أكذب منها في بطون التاريخ على الإطلاق . إنه يعتقد أن أي واحد ٍ منا لا يمكن أن ينسى كيف استحوذ أولئك الساسة بغرور على محطتي التلفاز استحواذا ً جائرا ً ، لتسويق بضائعهم ، لا ينسى أيضا ً كيف كانوا يتعلمون المنطق والسياسة بـ ( رؤوس اليتامى ).
لم يقو َ على رؤيتهم ولا حتى سماعهم ، لكنما التلفاز لا يعرض سواهم . كان يجلس أمامه يحرق نفسه بألسنة الغضب المتأججة . حينما تطل وجوههم من الشاشة ، يتبادر إلى ذهنه فورا ً أنهم مسلـّطون على رقبته وحده .. وحده فقط . يبدأ يستعر ويذوب حقدا ً وغضبا ً . يضرب فخذه بقوة ٍ وأحيانا ً يصفع جبهته وهو يسبُّ ويلعن الحكومة ، ولربما يستعر انفعاله فيروح يجدف بمقدساته !!..
كان يتصرف وكأنه الوحيد في هذا الوطن الذي ينصبّ عليه الظلم والجور.
يأوي إلى فراشه كئيبا ً متضايقا ً ضجرا ً ، وفي الصباح يفزع إليَّ عسى أن يلتقط خبرا ً يثلج صدره المحترق ، ويريح أعصابه المفتتة ..
صادفت في وقت ٍ لاحق ٍ ، أن التقيت بطبيب ٍ نفساني .. طبيب شاب يعمل على إكمال دراسته العليا ، كنت وصديقي الراحل على علاقة ٍ طيبة ٍ معه ، انتهينا سابقا ً من تصنيفه كطبيب ٍ شريف .. نعرف جيدا ً عمق المعارضة التي كان يضمرها في قلبه لنظام الحكم ورموزه . في مثل هذه اللقاءات تتسرب الأحاديث إلى أحوال الأصدقاء وأسرارهم عموما ً ، لذلك كنا نعرج إلى ذكريات صديقنا الراحل بشوق وحنين . استعرضنا حياته القصيرة ومناقبه ، وتلك الأخبار الخفية التي كانت تستهويه . في منتصف الحديث سألني الطبيب عن المشاكل الصحية التي عانى منها صاحبنا قبيل وفاته ، أجبته بأنه كان سليما ً ينضح بالعافية !.. حينئذ التفت إلي ّ مندهشا ً وهو يقول :
ـ ومن أين جاءته جلطة القلب ؟..
لم أجبه ، لكن رحت أتطرق بإسهاب ٍ إلى مشاعره المضطرمة دوما ً بشأن الحكومة وأفعالها .. وقصصت عليه حكايات جلوسه الطويل أمام جهاز التلفاز في الليالي ..
بان الانفعال السريع على وجهه ، وسألني كيف كان أهله يسمحون بتدميره أمام تلك الآلة ، إن ذلك انتحار أحمق . هز ّ رأسه بضعة هز ّات وقال :
ـ تلك المشاهدات لابد من أنها أوقعته تحت طائلة الضغوط النفسية القاهرة ، التي هز ّت أعصابه ومزقت شرايينه ، وجعلت قلبه مرجلا ً يغلي ليل نهار ، يوشك على الانفجار في أية لحظة .
كان ينبغي إبعاده عن التلفاز ..
لوى شفتيه امتعاضا ً ، وكرّر مرة ً ثانية ً وثالثة ً قوله ( كان يجب إبعاده عن التلفاز ..) .
لقد ذهب صديقي إلى منيـّته مسرعا ً ، وتركني ألهث وراء الأخبار وحيدا ً.. وحيدا ً بقيت . حتى أولئك الذين كنا نبادلهم الأخبار سرعان ما دبّ اليأس في قلوبهم واستكانوا . وعندما يشاهدونني أحاول انتزاع الأخبار حتى من أفواه السباع ، وكيف أوقف بعض الرفاق الحزبيين ، من الذين أعرفهم ، أخوض معهم في الكلام ، علـّني أظفر بخبر يريحني ، كان أولئك الأصدقاء يسخرون مني قائلين ( إن ديدانا ً تنبش في داخلي من أجل الأخبار ) ، وكنت أجيبهم بحرقة وغضب ٍ :
ـ أجل هذا صحيح ، تعالوا وشقوا جسدي ، فلسوف ترون ملايين الديدان النبـّاشة التي لا تقر ولا تهجع إلا ّ بإشراقة نور الأنوار ..
* * *
مضى على ذلك الفراق الأليم زمن ٌ طويل ، تغير فيه الواقع تغيرا شاسعا .. سقط الجنرالات ، وخطفهم الموت واحدا ً تلو الآخر .
أورثني صديقي المرحوم بعض عاداته ،
فأمسيت أزجي أوقاتي أمام شاشة التلفاز أيضا ً . ما إن أنتهي من عشائي حتى أتسمر أمامه ساعات ٍ متواصلة ٍ . أجلس طوال الليل أتصفح قنوات التلفزة الجديدة .. قنوات لا حصر لها ولا عد .. قنوات بالعشرات .. إنما عشرات العشرات حقيقة ً .. أتصفحها كل ليلة من الخليج إلى المحيط ، ومن المحيط إلى الخليج .. أتصفحها رائحا ً جائيا .. قنوات مزدحمة بوجوه السياسيين ..سياسيون من كل شكل ٍ ولون.. وجوه جديدة من الساسة تطل من الشاشات كل يوم وكل ساعة ، وكأن جهاز التلفزيون ليس آلة عرض فقط ، بل آلة تفريخ سياسي أيضا !!.. إن الأمر لا يعدو أن تـُسَخِم وجهك لتصير حدّاداً . وفي كل مرّة ٍ يصادفني رجل سياسة ، أعرفه أو لا أعرفه ،أعبره مسرعا .. أعبره قفزا ً، وكأنه نهر ٌضيق ٌ يعترض طريقي .. كأنه كثيب رمل .. أكمة شائكة .. أو لربما بركة موحلة . كنت أتجاوزهم بمرونة ٍ وسرعة ٍ .على طول الشاشات وعرضها كنت أقفز من فوق هؤلاء السادة ، وأنا أنطلق مرتقيا ً حواجزهم . كنت أتمنى لو تشاهدونني كيف أقفز .. والله والله ، وليس لكم أي يمين عليّ ، كنت أندفع مسرعا ً ، مطوحا ً جسدي في الهواء عاليا ً مثل القافز بعصا الزانة ، لأعبرهم سالما ً غانما ..
إنني إذ أفعل ذلك ، لا كرها ً للسياسة ، ولا حقدا ً على السياسيين ، سواء من كان منهم سائرا ً على قدميه ، أم من كان محمولا ً على محفته ، إنني لا أحمل في نفسي غضاضة ولا أحسد أحدا ً على تلك العروش المرفوعة وتلك الصولجانات الذهبية البرّاقة، ولكنني أفعل هذا لتمسكي بوصية صديقنا الطبيب الشريف ، وخوفا ً على قلبي المسكين من أن يسقط في صدري صريعا ً محطما ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة / 2009
الأحد يونيو 29, 2014 1:49 am من طرف مصطفى الروحاني
» قصيدة هبة الله للشاعر العراقي عبدالله النائلي
الأحد يونيو 29, 2014 1:45 am من طرف مصطفى الروحاني
» رثائية حبيب للشاعر العراقي عبدالله النائلي
الأحد يونيو 29, 2014 1:44 am من طرف مصطفى الروحاني
» تعبان مثل العشگ
الإثنين أكتوبر 17, 2011 2:23 pm من طرف الفراشه الحالمه
» اشتقت اليـــــــك
الإثنين أكتوبر 17, 2011 3:20 am من طرف الفراشه الحالمه
» اخاف عليك من روحي
الإثنين أكتوبر 17, 2011 3:14 am من طرف الفراشه الحالمه
» نهر عطشان
الإثنين أكتوبر 17, 2011 3:08 am من طرف الفراشه الحالمه
» مرثية ليست اخيرة
السبت يونيو 18, 2011 7:00 pm من طرف سامي عبد المنعم
» رحيم الغالبي ..... لك العافية
السبت يونيو 18, 2011 9:16 am من طرف كامل الغزي
» تجليات الفنان الفطري حمد ماضي
الجمعة مايو 27, 2011 11:21 am من طرف كامل الغزي